الفيلم البرازيلي ( أنا ما زلت هنا ) : عندما تغزو الدكتاتورية البيت السعيد
أسامةعبد الكريم – نيويورك
شهدالعالم في القرن العشرين والواحد والعشرين ظهور أنظمة دكتاتورية قمعية، كثير منها ولد من رحم الصراعات السياسية العالمية، خاصة خلال الحرب الباردة، حيث استخدمت القوى الكبرى الأنظمة الدكتاتورية كأدوات لضبط نفوذها الجيوسياسي. هذه الأنظمة لم تكتفِ بالسيطرة على الدولة، بل امتدت قبضتها إلى حياة الأفراد، حيث مارست القمع والتنكيل بالمعارضين، وزرعت الخوف في قلوب العائلات، تمامًا كما رأينا في تشيلي، سلفادور، الأرجنتين، البرازيل، اليونان، إسبانيا، العراق، سوريا، وتركيا. كانت هذه التجارب محطات مأساوية في التاريخ، نُقلت إلينا عبر الأغاني الملتزمة مثل أعمال جعفر حسن، والأفلام التي وثّقت معاناة المفقودين وضحايا الأنظمة العسكرية.
الدكتاتوريةالعسكرية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم، بل هي نظام يصادر الدولة لصالح الجيش، حيث تمسي السلطة مطلقة بيد المؤسسة العسكرية التي تفرض هيمنتها على السياسة، الاقتصاد، والمجتمع. غالباً ما تصل هذه الأنظمة إلى الحكم من خلال الانقلابات العسكرية، وتستمر عبر آليات التسلط، مثل تعليق الانتخابات، تزويرها، فرض قوانين الطوارئ، الحكم بالمراسيم، قمع الحريات المدنية، وإقصاء المعارضين. كما تعتمد على الأيديولوجيا لتبرير وجودها، سواء من خلال عبادة الشخصية، أو فرض الحزب الواحد، أو استخدام الخطاب الديني لتضفي على نفسها شرعية زائفة.
إنخطورة بعض الأنظمة الدكتاتورية تكمن في دمجها بين السلطة العسكرية والغطاء الديني، حيث تستخدم الدين كأداة لتبرير العنف والاستبداد، وتصوير أي معارضة على أنها خروج عن الطاعة، سواء كانت طاعة الحاكم أو الطاعة الدينية. هذا التوظيف الأيديولوجي يمنح الدكتاتورية بُعداً أكثر تعقيداً، إذ تُحاط بهالة من القدسية تمنحها حصانة من أي انتقاد، وتجعل مقاومتها أكثر صعوبة. وهكذا، تتحول السلطة إلى كيان شمولي يفرض معاييره الخاصة على الأخلاق والحياة الاجتماعية، ويصوغ هوية المجتمع وفق مصالحه، في تكرار مأساوي للتاريخ الذي لم نتعلم منه بعد.
طمسالذاكرةالجماعيةكأداةللسيطرة
إنإحساس الأفراد بهويتهم يتشكل من تراكم ذكرياتهم، وهذا ما يجعل فقدان الذاكرة تجربة مدمرة، حيث يتحوّل الشخص إلى كائن مختلف تماماً. ينطبق هذا الأمر على المجتمعات أيضاً؛ فذاكرة الأمة تشكل أساس هويتها، ولذلك غالباً ما تسعى الأنظمة القمعية إلى إعادة تشكيل التاريخ أو محوه بالكامل لضمان بقائها في السلطة. في السنوات الأخيرة، تناولت أفلام بارزة مثل Azor وThe Eternal Memory وArgentina, 1985 الأثر العميق لحالات الاختفاء القسري والاضطهاد السياسي خلال فترات الحكم العسكري، في أمريكا الجنوبية. تسلط هذه الأفلام الضوء على الطريقة التي تحاول بها الحكومات إنكار الجرائم التاريخية أو تهميشها، مما يترك آثاراً نفسية طويلة الأمد على الناجين والمجتمع بأسره. تعد الرقابة على التاريخ وإعادة كتابته من أخطر الأدوات التي تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية. فالتلاعب بالماضي لا يهدف فقط إلى تبرئة الأنظمة الحاكمة من الفظائع التي ارتكبتها، بل أيضاً إلى تقويض أي محاولة لإحياء المقاومة أو استعادة العدالة. إن محو الذاكرة الجمعية يمنح الطغاة فرصة لإعادة تشكيل وعي الشعوب، مما يجعل من الصعب مساءلتهم أو إسقاطهم.
السينماكمرآةللتاريخالمنسي
منبين الأعمال السينمائية التي وثّقت قمع الأنظمة العسكرية، يبرز فيلم أنا ما زلت هنا (I’m Still Here) للمخرج والتر ساليس، الذي يستند إلى مذكرات الكاتب مارسيلو روبنز بايفا، حيث يسرد القصة الحقيقية لاختفاء والده، النائب روبنز بايفا، أحد آلاف الضحايا الذين تعرّضوا للتعذيب خلال الديكتاتورية العسكرية في البرازيل بين عامي 1964 و
يعيدساليس بناء واحدة من أكثر القصص العائلية ألماً في تاريخ البرازيل، مستنداً إلى رواية مارسيلو روبنز بايفا السردية عن إصابته بالشلل، لكنه يضيف عنصرًا غير متوقع: كلب العائلة. لم يكن هذا الحيوان جزءاً من الرواية الأصلية، لكنه في الفيلم يصبح رمزًا للألفة، وشاهداً صامتاً على التحولات العاصفة التي تضرب بيت آل بايفا. ومع تصاعد القمع، يتخذ الفيلم منعطفاً أكثر قسوة، حيث يتم التخلص من الكلب بطريقة متعمدة من قبل المخابرات، في مشهد يلخص وحشية النظام ورغبته في محو أي أثر للحياة السابقة، حتى وإن كان مجرد كائن وفيّ يشارك العائلة لحظاتها الأخيرة.
تدورالقصة حول يونيس وروبنز بايفا، الزوجين اللذين يعيشان حياة طبيعية رغم الظلال القاتمة للنظام العسكري في السبعينيات. منزلهما في ريو دي جانيرو يعج بالضحك، الحب، والروتين اليومي، حيث يلعب أطفالهما في الحديقة بينما يراقبهم كلب العائلة. ولكن مع اعتقال روبنز على يد الشرطة العسكرية، تبدأ الحياة في الانهيار، ويبقى الكلب العائلة بمباو، كما لو كان انعكاساً لصمت العائلة، يجول في المنزل منتظراً سيده الذي لن يعود. هذا التفصيل البسيط يمنح الفيلم بُعداً إنسانياً إضافياً، حيث يصبح الكلب رابطاً غير منطوق بين أفراد العائلة وذكرياتهم. في النهاية، لا يقتصر الألم على البشر فقط، بل حتى الكائنات الصامتة تشعر بفقدان الأحبة، ما يجعل القصة أكثر قرباً وإنسانية.
تدورأحداث الفيلم في ريو دي جانيرو عام 1970، حيث تحاول عائلة روبنز بايفا العيش بسلام رغم هيمنة الجيش المتزايدة على الحياة اليومية. لكن سرعان ما يتصاعد التوتر عندما تُوقَف ابنته فيرا للتفتيش من قبل السلطات، ويتفاقم الوضع بعد اختطاف السفير السويسري على يد جماعة متطرفة . كما نشاهد لقطات مصوّر بواسطة كاميرا سوبر ٨ ملم محمولة التي عودنا المخرج ساليس في فيلمه ( رب المدينة) و ( المحطة المركزية ) و ( يوميات دراجة نارية)، وعلى ساحل البحر والشمس المشرقة والموسيقى البرازيلية والجميع العائلة يستمتعون بالاستجمام ماعدا الام التي تنظر في جهة اخرى لرتل من سيارات عسكرية و ليس الكاميرا كصورة تذكارية، كما يحذرنا الفيلم من الوثوق بأي شخص يحاول محو الماضي أو إعادة كتابته. طوال الفيلم، يظهر أفراد العائلة وهم يلتقطون الصور، وكأنهم يحاولون حفظ ذكرياتهم من الضياع. صرّح المخرج والتر ساليس بأن الأفلام هي “أدوات لمقاومة النسيان”، وأنه يؤمن بأن “السينما تعيد بناء الذاكرة”. في المشهد يخلق الخوف والترهيب في داخل احاسيس الام يونيس. عندما يصل المخبرين إلى منزل العائلة ويأخذون زوجها روبنز للاستجواب، تدرك زوجته يونيس وأطفالهم أن حياتهم لن تعود كما كانت من قبل. لكنه لا يعود أبداً.
دراما إنسانية في ظل الديكتاتورية
الفيلم ( ما زلت هنا ) يعيدنا إلى واحدة من أحلك فترات البرازيل في السبعينيات: الديكتاتورية العسكرية. يسلط الضوء على العنف القمعي للدولة، حيث يمكن لأي عمل تحدٍ أن يعرض حياة النشطاء وعائلاتهم للخطر. ما يميز الفيلم هو روايته من منظور عائلة بايفا المحبة، التي تعيش بالقرب من شاطئ ليبلون في ريو دي جانيرو، حيث تبدو الحياة مثالية للأطفال في قلب المنزل العائلي الذي تدور حوله القصة. تلعب الممثلة فرناندا توريس دور يونيس بايفا التي حصدت جائزة الغولدن غلوب ونالت ترشيحاً مفاجئاً للأوسكار عن أفضل ممثلة. كما ترشح الفيلم لجائزة أفضل فيلم دولي، ليصبح أول فيلم برازيلي في التاريخ يُرشح لجائزة أفضل فيلم دولي. فيما يجسد سلتون ميلو شخصية روبنز بايفا. المشهد الافتتاحي ينقل إحساساً بالهدوء والطمأنينة: الإضاءة الدافئة، أصوات البحر في الخلفية، وحميمية الحوار العائلي. لكن هذا الانسجام يُكسر فجأة عندما تقتحم الشرطة العسكرية المنزل.
تبدأ الكاميرا المحمولة باليد بنقل اضطراب الموقف، حيث يُخبر روبنز بايفا بأنه سيؤخذ للاستجواب. يحاول الحفاظ على رباطة جأشه، لكن التوتر في عينيه يكشف عكس ذلك. هنا، للمرة الأولى، نرى هشاشة الزوجة يونيس، التي تحاول التمسك بالأمل بينما يتبدد عالمها أمامها. تبدأ مرحلة التغيير منذ لحظة اعتقال روبنز، حيث يتم إغلاق الستائر، تخفت الأصوات القادمة من الخارج، تختفي الموسيقى، وكأن كل شيء يتلاشى تدريجياً. في لحظة عابرة لكنها مؤثرة، تدخل ابنتهما الصغيرة نالو مع صديقة لها، وتحاول يونيس والجنود التظاهر بأن كل شيء طبيعي،أن هذا المشهد قد يكون الأخير بينهما.
في المشهد الأخير الذي يجمع روبنز بيونيس، تأطّر لحظتهم الأخيرة معاً بواسطة الضباط العسكريين، مما يعزز الإحساس بالخنق داخل المنزل الذي كان يوماً ما ملاذاً آمناً. هذه واحدة من لقطتين قريبتين فقط في الفيلم بأكمله، حيث يختزنها المخرج للحظة الوداع الحاسمة. ومن هنا فصاعداً، يصبح الفيلم قصتها، حيث تتحول يونيس من زوجة تحاول التمسك بالأمل إلى امرأة تواجه حقيقة قاسية: زوجها لن يعود أبداً، والسلطة ستفعل كل ما بوسعها لطمس الحقيقة.
هذا العمل هو أول فيلم روائي مقتبس للمخرج والتر سالس منذ على الطريق (2012)، ويعتمد على سيرة مارسيلو روبنز بايفا، بكتابة موريلو هاوزر وهيتور لوريغا. رغم إمكانية تحويل القصة إلى إثارة سياسية، اختار سالس التركيز على الجانب الإنساني والخسارة العائلية العميقة. وبدلًا من تصوير وحشية مقتل روبنز، استخدم تصميماً صوتياً مرعباً لمحاكاة تعذيب السجناء في الثكنات العسكرية أثناء استجواب يونيس، مما جعل الألم محسوساً دون الحاجة إلى مشاهد مباشرة للعنف.
الفيلم ( ما زلت هنا ) ليس مجرد فيلم عن الديكتاتورية، بل شهادة على أهمية تذكر الماضي وعدم السماح له بأن يُمحى أو يُشوَّه. فالتاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو ذاكرة الشعوب، وأي محاولة لطمسه تعني محاولة لمحو هوية الأمة ومستقبلها. إن مقاومة النسيان تظلّ أداة أساسية في مواجهة الأنظمة القمعية، لأن الحقيقة، مهما تم التلاعب بها، ستظل تطارد الطغاة إلى الأبد.
عندمايصبحالنسيانسلاحاً:
قصةنضالفيوجهالديكتاتورية
تعودجذور القصة إلى الانقلاب العسكري في البرازيل عام 1964، عندما أطاح الجيش بالرئيس جواو غولارت، مدفوعاً بالذعر من الشيوعية والمصالح الأمريكية في المنطقة. فرض العسكريون سيطرتهم من خلال تعديل الدستور، حظر الأحزاب السياسية المستقلة، وسحق أي معارضة عبر القمع الوحشي، التعذيب، والقتل. استمرت هذه الديكتاتورية حتى عام 1985، حين تم انتخاب تانكريدو نيفيس كأول رئيس مدني منذ أكثر من عقدين. في هذا السياق القمعي، يأتي فيلم ( أنا ما زلت هنا ) للمخرج والتر ساليس، المستوحى من مذكرات مارسيلو روبنز بايفا، التي توثق اختفاء والده النائب روبنز بايفا، أحد آلاف الضحايا الذين واجهوا العنف العسكري. صدر الفيلم في نوفمبر 2024، ورغم دعوات المقاطعة من اليمين المتطرف، لاقى نجاحاً كبيراً، ليصبح الأكثر إيراداً في البرازيل منذ جائحة كوفيد-19. أثار الفيلم جدلاً واسعاً، إذ طرح تساؤلات حول غياب المحاسبة الرسمية للجيش، على عكس ما حدث في تشيلي والأرجنتين.
يبدأالفيلم في ريو دي جانيرو عام 1970، حيث تعيش عائلة بايفا حياة تبدو طبيعية وسعيدة، رغم تزايد سطوة الجيش. روبنز بافيا (سيلتون ميلو)، النائب المنفي سابقاً، عاد مؤخراً إلى البرازيل ليعيد بناء حياته مع زوجته يونيس (فرناندا توريس) وأطفالهما الخمسة. لكن استقرارهما سرعان ما يتبدد حين يُعتقل روبنز يوماً ما من منزله دون تفسير، ولا يعود أبداً. يُظهر الفيلم كيف تتحول حياة يونيس وأطفالها إلى كابوس، وسط أكاذيب النظام ومحاولاته لطمس الحقيقة. يتم استدعاؤها وابنتها للاستجواب، بينما يُروج الإعلام الرسمي لرواية مفادها أن روبنز ” فرّ هارباً”، في حين أن العائلة تعلم أنه تعرض للتعذيب والقتل.
منذعام 1971 وحتى 1996، خاضت يونيس بايفا معركة طويلة لإثبات شهادة وفاة زوجها، ليس فقط بدافع الحزن ولكن أيضاً لأسباب قانونية ومعيشية. لم يكن بإمكانها الوصول إلى حساباته المصرفية أو بيع ممتلكاته لإعالة أسرتها، لكنها لم تستسلم. انتقلت إلى ساو باولو، حيث أصبحت محامية تدافع عن حقوق السكان الأصليين، الذين راح أكثر من 8000 منهم ضحية للسياسات العسكرية القمعية. تحولت إلى رمز للنضال من أجل الاعتراف بضحايا النظام.
لايقتصر الفيلم على كونه سرداً عن امرأة قوية، بل يقدم أيضاً رؤية دقيقة للطريقة التي تعمل بها الأنظمة الاستبدادية، حيث يُستخدم الخداع والتلاعب العقلي كأدوات للإرهاب. فالسلطة لا تحتاج دائماً إلى العنف المباشر، بل يكفيها أن تجعل الناس يشككون في واقعهم. ومع أن الحكومة ادعت أن روبنز بافيا “هرب”، إلا أن الحقيقة ظلت تطارد النظام حتى عام 2014، حين أكدت اللجنة الوطنية للحقيقة تورط الجيش في تعذيبه وقتله، دون أن يُحاسب أحد.
أحد أكثر المشاهد تأثيراً في الفيلم ( أنا ما زلت هنا ) هو احتجاز يونيس في منزلها بعد اختطاف زوجها، محاطة بالشرطة بافيا لكنها تبقى متماسكة من أجل أطفالها. تجسد فرناندا توريس دورها ببراعة، حيث تعكس قوتها الداخلية دون تكلف، خاصة في مشهد التقاط صورة العائلة للصحف. تدعو يونيس أطفالها للابتسام، وكأنها ترسل رسالة تحدٍ بأنهم لن يسمحوا لهذه المأساة بكسرهم. ورغم قسوة القصة، لا يغرق الفيلم في الكآبة. يملؤه والتر سالس بلحظات دافئة ومرحة، وموسيقى برازيلية رائعة، مع إبراز العلاقات العائلية وسط المحنة. تأخذ المشاهد الأخيرة طابعاً شخصياً، خاصة عندما تجلس الابنة الصغرى وحيدة في المنزل الفارغ، تتأمل الذكريات التي تحولت إلى أطياف من الماضي.
يركّز السيناريو في أنا ما زلت هنا على رحلة يونيس، التي تجسدها ببراعة فرناندا توريس، وهي تواجه تحديات الفقدان واللايقين القاسية بينما تربي أطفالها وحدها. يعرض الفيلم تحوّلها من زوجة مخلصة إلى امرأة تعيد بناء حياتها كمحامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان. سيلتون ميلو في دور روبنز بايفا يُجسّد مثالية النائب وشجاعته، رغم أن غيابه يظل يخيّم على كل مشهد، ولكن إرثه يستمر من خلال نضال يونيس. قد تبدو الانتقالات الزمنية مربكة أحياناً، لكنها لا تضعف جوهر القصة. ينتهي الفيلم بمشهد مؤثر ليونيس المسنة (أدّتها فرناندا مونتينيغرو، والدة توريس في الواقع) وسط عائلتها هي تشاهد التلفاز و تتحدث المذيعة عن فقدان ثلاثة رجال من بينهم زوجها روبنز. رغم معاناتها من فقدان الذاكرة، تظل روابط الحب متماسكة عبر صورة تذكارية.
يتقن المخرج والتر سالس المزج بين السرد الحميم والسياق التاريخي للبرازيل، حيث يرسم توازياً بين قمع النظام العسكري وصحوة يونيس كرمز للمقاومة والقوة. التصوير السينمائي، بطابعه الواقعي الرصين، يجسد التباين بين أيام الأمل الساطعة قبل الانقلاب، وحداد الصمت الذي أعقبها. يعزز هذا التباين كيف أن الهدم النفسي للعائلة يتوازى مع الهدم السياسي الذي كان يعيشه المجتمع البرازيلي في تلك الحقبة.
الفيلم ( ما زلت هنا ليس) مجرد تكريم لعائلة واحدة، بل هو تأمل قوي في قدرة الحب والذاكرة على البقاء رغم أقسى المحن. هذا العمل السينمائي يُعتبر أساسياً لفهم تاريخ البرازيل والتأثير الإنساني العميق لجراحه السياسية، مما يجعله تحفة فنية تثير تساؤلات حول القدرة على الصمود في وجه الظلم والتعذيب.