
أفلام الظلام.. من الدراما النفسية إلى فانتازيا الهلاوس
د. هاني حجاج مصر
بدلًا من النجوم الصغيرة التي نضعها على رأس مقالات نقد الأفلام للتعبير عن جودته بإيجاز (خمس نجمات لإصلاحية شاوشانك، نصف نجمة لقبضة الهلالي، وهكذا)، اختار بيتر نيكولز أن يضع بدلًا منها جماجم صغيرة لنوعية من الأفلام في موسوعته (السينما الخيالية) على سبيل درجة (التقزيز)، أربعة جماجم تعني أنه ليس لضعاف القلوب، ولا حتى يمكنك التجربة. فكرة طريفة نبَّهتنا إلى طبيعة تقييم افلام الرعب والعنف، فهل تعني النجمة الواحدة (كمية الخوف) الهينة في فيلم معقول، أم المستوى الضعيف للفيلم ككل؟
تسلية سوداوية: إرهاب حر وعزلة فكرية
في نهاية الستينات لم تعد هناك حاجة ماسة للتصوير في القلاع لإلقاء ظلال الفزع على المشاهد. خرج جان لوك جودار للشارع، يريد أن يقول، نهاية العالم سوف تكون على الطريق، الرعب بواقعية شديدة. يبدأ فيلمه (العطلة) باثنان ينطلقان نحو الريف. تجري شهوة شبه جنسية في عروقهما ويبحثان عن إجازة نهاية أسبوع مثيرة، ويحصلان عليها فعلا: ثمة تكدس مروري لعين. حطام سيارات. أشلاء ودم ونار. قام الشيوعيون بثورة مسلَّحة حمراء بينما السادة أهل السياسة والفكر في عزلة شاملة. هذه الفترة هي مرحلة انفجار الطلبة في الكليات وخروج الهيبز للريف والذي نجا من جحيم الحرب الأهلية يموت على الطريق. قصة عبثية كما ينبغي أن تكونه. العبث الذي يجعلك تقتل لتتسلى، تقتل بسبب الفوضى العامة. تقتل ولا تعرف لماذا. هذه الفترة التي يقتل فيها غريب ألبير كامو غريبًا آخر لأن لمعان الخنجر أزعجه، ويقتل مساطيل (ثرثرة على النيل) الفلاحة على الطريق في رحلة صاخبة كعطلة جودار التي يسخر فيها من دموية الماركسية وسعار الاستهلاك والمادية التكنولوجية الذي أفسد العالم فجُن. البنت التي قُتل خطيبها في الحادث تصرخ في وجه السائق الفقير الجاهل: “كنا سنتنزه على شواطئ الريفيرا أو كان بمقدرونا أن نتزحلق على الجليد!” جثة الفتى مضرجة بالدماء، وهي تفكر في تفاصيل الرحلة. هل تذكر الحادث المؤسف المضحك الذي حصل في مصر عند بداية ظهور الهواتف المحمولة؟ موظف بسيط تدهسة سيارة لأنه مشغول بالرد على الجوال، ويتضح أنه هاتف محمول لعبة ثمنه قروش! في فيلم جودار يركض الناس وسط قطيع أغنام، والناس ملوثون بالدم يصرخون بهستيرية، الموج الأحمر البشري يشق الغريزة البيضاء. أنت تعيش مع مرضى، أو مع من يراقبك بالسر ويدوِّن عنك ملاحظات ضدك. وتنظر إلى وجه أقرب الناس إليك بحثا عما يدل على رابط إنساني، ولكن بلا جدوى. تغرق أنت أيضًا في الهواجس والماديات، ولكن لا ضحكة ولا إهتمام، ولا ومضة في العين. وفرصتك الأفضل هي أن تحدث مصيبة تخرجك من طاحونة الملل الدائرة بلا رحمة. وعند نقطة معينة تأمل في أن تفعل أنت أي شيء. حتى لو كانت جريمة. وعند نقطة أخرى يفيض بالنفس العبث وتقول: انتهى.

أفلام الاستحواذ والاستفزاز
مع دخول الثمانينات بدأت ألوان السبعينات المدهشة في الزوال ومر الوعي العام بحالة ملل الاعتياد، هنا قدم لوتشيوفولتشي، (المنزل المجاور للمقبرة) عام 1981 عن الدكتور فرودستاين المولع باللعب في الجثث في قبوه الخاص. هذا القبو هو عقلنا الباطن الذي بدأنا نتسلل إليه مع تشبُّعنا من أفلام الرومانسيات المرحة وعراة الشواطئ والتحرر الجنسي والبواريك الشقراء والسوالف الرائقة والمايوهات البرتقالية، مثل سيئي الحظ في هذا الفيلم الذين يسكنون المنزل المشئوم. ويجدون طريقهم إلى هذا القبو لاحقًا، بل إن أحدهم يصل إليه مباشرة من خلال ثقب في الأرضية. هناك ظلال مخفية شديدة الابتكارية، وهناك فواجع صغيرة كالولد الذي يصاحب الفتاة الجميلة التي ماتت منذ فترة وجيزة، وتعيش الآن في جحيم البرزخ في قبو الدكتور المجنون. اللقطات السوداوية مثيرة للقنوط بتحرر سادي تبرره جنسية المخرج الإيطالي الذي قدم في العام نفسه فيلمه الظلامي الآخر (الوراء) عن الفندق الأسود في أحد شوارع نيو أورليانز، لكنه بالصدفة يقع فوق إحدى بوابات النجوم الجهنمية، وبعد صعود عدة درجات على سلم الفندق يمكنك النفاذ إلى مشرحة المفروض أنها موجودة على بعد عدة أميال من هنا. توجد ممرات كافكاوية حافلة بالدهاليز ولا منطقية الكوابيس وآكلوا البشر من الموتى الأحياء. ثمة امرأة غريبة الأطوار تعيش في ظلام العمى اللافكرافتى لا تعرف شيئًا عن تفاصيل منزلها الجميل الذي لا تراه، حتى ضوء النهار له هنا قوة ظلامية، يجتاح البيت ويتلفه ويفرغه من كافة محتوياته، ضوء النهار يخترق المرأة ويمزقها هي وكلبها. حتى الذين ينجون في النهاية من بطش الزومبي يهيمون عبر القبو إلى صحراء قاحلة ملعونه كسقر.

فانتازيا الهلاوس والبارانويا
تحدَّث يونج عن النظائر الأصلية، السريالية الفانتازية تنبع من المخ والمُشاهد يشارك في الهلاوس التي يراها على الشاشة، ومن المثير أننا نصاب بسرعة بحالة فصام عجيبة: نحن على المقعد ونحن داخل الفيلم. قدم برجمان في أواخر الستينات فيلمه (ساعة الذئب) وهي قصة الرسام يوهان (ماكس فون سيدوف) ورحلته مع زوجته إلما (ليف أولمان) في جزيرة مهجورة، هناك يفقد قدراته على الإبداع وتطارده أشباح تخرج من داخله ثم تأخذ أشكالًا خارجية مشتعلة، وهنا يستعير برجمان الأجواء الظلامية القديمة، لأن يوهان يصعد إلى قلعة قوطية ويُجهِّز حفل عشاء في جو كالكوابيس تطارده فيها الغربان ورجل طائر قبيح مخيف وسيدة عجوز تنزع جلد وجهها كقناع وتكشف له عن جمجمتها، حتى حبيبته السابقة فيرونيكا صارت الآن من الموتى الأحياء فهبط معها إلى الوحل والظلام تدور كل هذه الأحداث في (ساعة الذئب) وهي الساعة الأكثر سوادًا وظلامًا من الليل والتي تكون فيها النفس أكثر ضعفًا وطواعية للهبوط والشذوذ. المسوخ التي يراها لم تأت اعتباطًا، بل كان العشاء الجهنمي نسخة من حفل حقيقي حضره قبل الرحلة، ونحن نرى بعينه هو كيف يتشوَّه الزمن أو كيف يتلف عقل المبدع ظروف خانقة حتى تستحيل تفاصيل الحياة الطبيعية قاتمة كأنه حفل قناع الموت الأحمر في قصة بو المعروفة. وفيما بعد- عام 1972 – قدم بونويل معالجة أدق للفكرة: استخدام السيريالية السوداء للنقد الاجتماعي في فيلم (رزين بلا إدعاء) وعُرض في الأوساط الثقافية في مصر تحت عنوان (سحر البرجوازية الخفي) والعنوان قريب من معنى الأحداث وليس لأغراض تجارية، لأنه في هذا التوقيت كانت الطبقة الوسطى تسيطر على كل شيء وتمنح الفنان حرية العبث بلا حدود وممارسة كافة الألعاب الفوضوية، كيف لا وقد نشأت السيريالية أساسًا كصيغة من اللامعقول لاذلال الغطرسة وكبر الأصولية الديكاتورية؟ وتطويعها في السينما على طريقة برتقالة كوبريك الميكانيكية غرضه المكاشفة حتى لو كانت مؤلمة وتحقير الادعاء والتكبُّر. فإن كنت تحكمنا يا سيدي بالحديد والنار فانزع عنك قناع الورع وحب الوطن، فما الوطنية الزائفة إلا آخر ملاجئ الأوغاد، وهكذا يدخل (رزين بلا إدعاء) إلى صلب الموضوع مباشرة. يصل المدعوون إلى حفل عشاء في أمسية خاطئة، ومن ثم يؤخذون إلى مطعم لكن جنازة تبدأ. يعودودن في اليوم التالي ليفاجأ الجميع بمضيفيهما في أوضاع حميمة عجيبة وممارسات شهوانية فاحشة ولا يمكن السيطرة عليهما. يصل رجل الدين ويسأل عن البستاني ويعرف أنه لا يوجد بستاني بلا جندي مر بظروف حرب يحكي لهم عن وجود شبح في غرفة الشاي وتوجد دماء في القصة! تلاحم جديد بين العاشقين بلا فكاك في محاولة ثالثة لإقامة حفل العشاء تتلفها قصة أشباح أخرى، وفي المحاولة الرابعة تتحول الطيور إلى تماثيل من الجبس وترفع الستار ليظهر أن المائدة كانت خشبة مسرح. رجل الدين يسمع الاعترافات وما إن يفرغ الخاطئ من ذنوبة، يطلق عليه النار. وقصة أشباح جديدة يقطعها دخول جماعة إرهابية تقتل المدعوون جميعًا دون أن يمس أحدهم الطعام. كابوس متلاحق ومشاهد بشعة فاضحة وتكرار عقيم يؤكد رسوخ الفساد في المجتمع وأن عالم الأناقة يصطدم بعالم الفزع، وقد يكون أحد العالمين هو الكابوس.
في منتصف السبعينيات رقصت السينما الأمريكية (والعالم بطبيعة الحال) في حفل لأفلام المسوخ المُبتذلة، مثل (الحشرة) لجينوت شوارز، تمثيل برادفورد ديلمان، وريتشارد جيليلاند، وجوانا مايلز، وتأليف وليام كاسيل. تخرج صراصير عملاقة كريهة من باطن الأرض بعد زلزال ما، فإذا تلامست أذيالها تصير خارقة وتحرق الناس والبيوت ثم تصبح أكثر ذكاء أو لديها القدرة على التربُّص والتآمر ثم الهجوم دون سابق تهديد. ما الذي أراد شوارز قوله؟ لا شيء أكثر من أن ثمة حشرات قد تتحول إلى سلالة من أكلة لحوم البشر. وبدأت الأفلام تفقد عمقها الفكري وقيمتها الرمزية، كما استمر نفس المخرج على نفس المنهج السطحي في أفلامه التالية مثل (مكان ما في الزمن) والجزء الثاني من (الفك المفترس) الذي لا يُقارن بفيلم سبليبيرج بالرغم من أن هذا الأخير قدم فيلما ممتعًا فقط دون إشارات أخرى، لكن حتى التشويق الخالص له أصحابه، أنظر مثلًا إلى أفلام حسام الدين مصطفى وحسن الأمام المُسلية الفارغة، نسخر منها، لكن من يحاول تقليدها يقدم كوارث. في نفس التوقيت قدمت فرنسا بورنوجرافيا ظلامية بعنوان (حكايات خليعة) تأليف وإخراج فاليريان بورفيتشيك عن عدة قصص لأندرية بيير دي ماندياجويز وبيلامي وبيرينزي. المخرج البولندي يعشق الوحوش والظلاميات الكلاسيكية وفيلمه مُقسَّم لعدة فصول كأنه رواية، أو بالأدق مجموعة قصص قصيرات: اليزابيث باتوري كونتيسة المجر مصاصة الدماء التي تستحم في دم العذاري (بالوما بيكاسو وباسكل كريتسوف)، بالوما هي ابنة الفنان المعروف بيكاسو طبعًا، متجهمة قاسية تلعب دور الكونتيسة التي تدعو فتيات القرية الساذجات للمرح في حفل صاحب بأحد الحمامات، يتقاتلن على لآلئ الكونتيسة، وبالتأكيد ينتهي الحفل بهدية رائعة للجميع. وصيف الكونتيسة المُخنَّث يُخرج سيفه العملاق كسيف مسرور المقوَّس يذبح به جميع البنات، وتنجو الفتاة الأكثر حيوية بينهن حسب قواعد أفلام الرعب الحديثة كي تصبح رفيقة سُحاقية للكونتيسة، لكن سرعان ما تخونها مع رجال الشرطة! أما بقية أحداث الفيلم فعبارة عن فانتازيا من الدم واللحم.

ظلام النفوس ورسالة تحذير من الشفقة
الاتجاه الجديد في أفلام غوامض النفس هو التحذير من الاقتراب من كل ما هو بريء ودود، فما يدريك لعله قناع يخفي الهلاك؟ بداية فيلم (اليتيمة) مثلا كابوسية مقبضة. تكتشف الأم أن إدمانها الخمر جعلها تفقد جنينها، ولكن تتخفف من عذاب الضمير وتقنع زوجها بتبني طفلة من ملجأ أيتام روسي حتى تعطيها ما لديها من حب مفقود للطفل الذي ولد ميتا، ويقع الاختيار على فتاة صغيرة عجيبة، شديدة الذكاء،وذات ميول فنية ظاهرة، ولها قدرة غير عادية على جذب الآخرين واستمالة الغير. إنها الطفلة (إستر) التي تبحث عن الأمان بدورها في أحضان أسرة جديدة، فيحدث تفاهم متبادل سرعان ما يزول في البيت عندما تبدو على الطفلة مظاهر مريبة تلاحظها الأم، بينما يقف الأب بجوار البنت دون أي اعتراض يذكر. وكما جرت العادة، (إستر) غير قادرة على الانسجام مع زملائها الجدد في الدراسة، وهي لا تستطيع التواصل مع أخيها الصغير، بالرغم من قدرتها على التأثير على الابنة الخرساء وتأخذ الأمور منحنى كابوسي عندما تأتي الراهبة السوداء التي كانت مسئولة عن الطفلة (إستر) في الملجأ لتتفقد شئونها ولتر ماذا تم في أمرها وأيضا̋ لتعطي أهلها الجدد فكرة عما خفي عنهم من أحوالها! يعتري (إستر) الخوف والاضطراب، ثمة سر لا تريده أن ينكشف، رغم كتمانه تندفع إلى إجراءات وقائية وتدبير مؤامرة خطيرة بمعونة أختها الخرساء للتخلص من الراهبة بقتلها بشكل شديد الشناعة! ولا تكون هذه هي الجريمة الأولى، وأيضا بمساعدة الطفلة الخرساء تحت التهديد كي لا تلقى المصير ذاته إذا كشفت السر، أما الضحية الجديدة فهي الأم التي تستنجد بطبيبة نفسية وتصرِح لها بشكوكها في (إستر) طفلتها المتبناة لكن الأمور تجري لصالح الطفلة الغريبة، فتبريء الطبيبة (إستر) وتلقي اللوم على الأم! أما أخوها (دانيال) يشك في سلوكها؛ فيكون عقابه سريع جداً: إنها تستدرجه وتحرقه حياً! حتى تتفرغ لتدبير خططها ضد الأم المتشككة التي سرعان ما تنهار وتعود للإدمان وتسرف في شرب الخمر فتتأكد شكوك الطبيبة النفسية في قواها العقلية وتنصح بحجزها في مصحة عقلية. فتكون هذه فرصة الأم للاستفهام هناك عن الماضي الغامض لإستر التي تستغل فرصة غياب الأم وخلو البيت لإغواء الأب!
وبالتحري السريع تكتشف الأم عدة حقائق: هذه الطفلة الغامضة لم تكن في ملجأ للأيتام؛ بل في مستشفى المجانين! أيضا̋ هي ليست طفلة ذات أحد عشر عاما̋ ، بل شابة تجاوزت الثالثة والثلاثين، أما سبب ملامحها الطفولية فهو داء بالغدة الدرقية أحدث نوعا̋ من الخلل الهرموني، والعائلة التي كانت تعيش معها من قبل قد قتلت كل أفرادها وحرقت منازلهم! الأم تخرج من المستشفى غارقة في الهلع، إنها ترغب في العودة سريعا̋ للدار لتحذر زوجها الغافل من حقيقة الطفلة/ الشابة الدموية، لتكتشف أن الأوان قد فات؛ إذ أن الطفلة بعد أن رفض الأب المذهول محاولاتها لإغوائه تقتله بوحشية وتهم الآن بقتل أختها الخرساء. وتدور المعركة النهائية بين الأم المكلومة والطفلة القاتلة في جو سريالي مرعب في الجليد و .. وينتهي الفيلم الذي يشير بأصابع الاتهام إلى المعسكر الشيوعي والحزب الاشتراكي وإلى الأسرة الأمريكية وعجز الطب النفسي والمستشفيات العقلية وقصور ملاجيء الأيتام ونساء المجتمع ككل ومدمني الخمر، لصالح براءة الطفلة التي ماتت بالتدريج ضحية لكل هؤلاء!! الفيلم من إخراج جومي كول سيرا، كتب السيناريو ديفيد جونسون عن قصة أليك ماسي، والبطولة لفيرا فارميجا (كيت)، بيتر سارسجارد (جون)، إيزابيلا فورمان (إستر)، جيمي بينيت (دانييل)، وجدير بالذكر أن شركة وارنر برازرس قامت بتحرير إعلان الفيلم لحذف عبارة (من الصعب أن تحب الطفل الذي تتبناه كأنه ابنك) بعد وصول أطنان من الشكاوى، لكن العبارة بقت داخل الفيلم رغم ذلك!
في فيلم (ماكس بين) تنتقل الكاميرا بمعونة الجرافيك لظلاميات ألعاب الكمبيوتر حيث الملائكة شياطين والبطل مجهول الهوية يعربد في الأزقة بين المجرمين والحثالة، إنها لعبة فيديو أخرى تتحول إلى صورة سينمائية مثل لارا كروفت والشر المقيم، لكنها خرجت هذه المرة من بوابة جون وو وعوالم روايات فيلم نوار البوليسية، هواة اللعبة كالعادة شعروا بخيبة أمل، ثمة بداية مبشرة ثم تبدأ المقارنة غير العادلة، الأمر ذاته الذي حدث مع مهاجمة المقابر: بداية مشوقة سريعة ثم تبدأ الهوة في الاتساع بين محبي اللعبة والفيلم عند أول بطء للإيقاع كما هو وارد أن يحدث في شكل درامي بطبعه، وهو ما يجعل منتج أي عمل من هذا النوع يتردد رغم الدافع البديهي وهو استغلال نجاح اللعبة، نحن لا نتعجب عندما يمتلك أحدهم صبرا لقراءة ما يربو على الألف صفحة لستيفن كنج أو فيليب باركر ثم لا يطيق فيلماً مدته ساعة ونصف مأخوذ عن قصة لكاتبه المحبوب. أو تستغرقه الساعات يحارب ريزيدنت ايفل ثم يتململ بلا حرج قبل انتهاء الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه. قصة الفيلم تقتبس مجرى الأحداث من اللعبة التي تحمل نفس الاسم، تقتل زوجة الشرطي وابنته بسبب مؤامرة تحاك حول عقار يصنعه الجيش اسمه فالكور. ثمة تجار مخدرات، وملائكة، وسرنجات، ومونا ساكس التي تنوي الانتقام لشقيقتها، وهناك لوبينو المهووس، وبي بي الخائن، ثمة رصاصات تتطاير، ومؤثرات تحاول تقليد اللعبة. مشاهد الحركة أقل من المتوقع وبعيدة عن بعضها بالرغم من الإيقاع اللاهث لأحداث اللعبة، التمثيل جيد جداً بالنظر إلى النص البخيل الذي يقدم القليل، لا يمكنك لوم الممثلين إلا على اختيارهم لنص كهذا! (قام بدور ماكس بين الممثل مارك والبرج، ميلا كونيس في دور مونا ساكس، بو بريدجز في دور بي بي، كيت بورتون تلعب دور نيكول هورني). بالنسبة للتصوير فهو رائع ولكن لماذا يضيع وقتاً بلا داعي (8 دقائق كاملة لالتقاط مغلف دون توتر أو ترقب لأي شيء) ولعل التصوير هو سيد الموقف وهو ما أنقذ الموضوع، فكان أقرب ما يكون إلى أجواء اللعبة الحقيقية (لاحظ مشهد تبادل إطلاق النار في أروقة المكاتب، ومشهد الملاك الذي يجذب الرجل من النافذة). تشاهد الأحداث وتتمنى أن تصير أفضل بعض قليل وفي المشاهد التالية، لا تجد روح اللعبة وتنتظر فيلما للحركة فتضيع في أجواء فانتازية تشتت الذهن.
ومن جديد، اللعب على وتر التخويف من الشخص الودود، فما يدريك لعل له ماض أسود؟ يتولى الزوج سيمون وظيفة جديدة في شركة لأنظمة الحماية، أما الزوجة روبن فلا يترك الإجهاض أثراً على نفسها، لأن انتقالهما السعيد من شيكاغو لإحدى ضواحي لوس أنجلوس يملأ نفسيهما حبوراً وسرور. المكان هاديء جميل، والغد واعد، ولا ريب أنهما سيرزقان بطفل تسكن معه آخر عواصف النفس الحائرة. بداية ناعمة حالمة لا تترك أي سبيل لعقلك سوى التفكير في مصيبة لابد أن تظهر لتحيل حياة الزوجين إلى جحيم! هكذا علمتنا عشرات من أفلام الرعب، لكن فيلم الهدية (The gift) يستعيد أجواء هتشكوك النظيفة وعالم التوجس الطاهر من نقطة دم واحدة. لكن الظلام يكمن في النفوس. الزوج يستقيم في عمله الجديد والزوجة تزجي فراغها بالعمل من البيت في تصميم الديكور عبر الانترنت، ويذهبان للتسوّق سوياً لابتياع ما ينقص من لوازم تجهيز البيت الجديد، وفي المتجر يلتقيان –بصدفة عجيبة- بجوردو، زميله سايمون القديم في المدرسة. موقف ظريف يتضح أنه سيبدّل الكثير في الحياة التي ظنَّاها مثالية في العش الهاديء. جوردو، ظريف مرح غريب الأطوار بعض الشيئ، يتطوع لنفخ روح الفكاهة في حياة الزوجين. بل إنه يرسل لهما هدايا بسيطة من آن لآخر تجعل وجوده محتمل إلى حد ما. هذه تيمة الصديق الودود أكثر من اللازم الموجودة في روايات الأربعينات. طبعاً يسهل أن تتحول إلى قصة سخيفة جديرة بمسلسل (حكايات القبو) القديم، لكنها تتحول إلى عمل فني رفيع بين يدي المؤلف والمخرج الأسترالي جويل أدجرتون، مؤلف (المربع) و(جناية) و(المتجول)، ولعب من قبل دور توم بوكانون في النسخة الحديثة من (جاتسبي العظيم)، وهو هنا يتصدى للعب دور الصديق القريب المريب (جوردو) شخصياً! تأتي تلك اللحظة الحتمية التي يعترف فيها سايمون لزوجته بأنه لا يستريح لهذا الضيف الثقيل الذي يفرض نفسه على حياتهما، ويصارحها بأنه لا يفهم سر ابتسامته اللزجة وكلامه الفارغ عن السلام النفسي والبحث عن أبسط الحقائق. ويصيغ وجهة نظره في عبارة واحدة تلخص الأفكار التي تصنع قناع الحلم الأمريكي؛ إن سايمون رجل سعيد، نشيط، يملك مصيره ويعرف كيف يشق طريقه في الحياة ليحقق أهدافه الواضحة القوية: زوجة وبيت وسيارة ومعاش مضمون، أما جوردو فهو خاسر لعين يعيش في تهاويم غامضة وفلسفة عتيقة ويرهق نفسه والذين حوله بتطلعات خيالية تثير الشفقة والارتباك. يقوم فيلم (الهدية) على حيلة سردية وشكل بنائي ذكي، الشخصيات تعيش بيننا، وهي نحن عموماً، وما بال هذا الصديق المهذب المتسامح المجامل فوق المعتاد؟! اعتمد السيناريو على تفاصيل عديدة كان من شأنها اعطاء المشاهد المعلومات بشكل غير مباشر، وابتعد أدجرتون عن الشطحات التي يغري الموضوع بالوقوع فيها بسهولة حتى تكون المفاجآت الواردة منطلقة من اختيارات كل شخصية بكامل إرادتها وحتى تكون كل كبوة ونقطة تسارع ناجمة عن تراكم طبيعي لسلبيات كامنة في حياة بطيئة مسالمة يظن أصحابها أنها مثالية. (الهدية) يهديك هذه الأسئلة: هل من نعيش معهم هم أحق الناس بصحبتنا؟ هل ننسى الماضي لمجرد أننا نريد ذلك؟ هل يمكن اتقاء شر الحليم؟
حيوانات ليلية.. انتقام ناعم وحب شرس
سوزان مورو تستلم مخطوط رواية بقلم زوجها السابق الذي تخلت عنه بطريقة قاسية كما تصف بعظمة لسانها لسكرتيرتها في معرض الحديث، إدوارد (يقوم بدوره جاك جلينهال)، روايته بعنوان (حيوانات ليلية)، وستعرف أثناء الأحداث أنه كان يطلق على زوجته اسم الحيوان الليلي لأنها تظل مستيقظة طيلة الليل حتى لو لم تكن تدير أي صفقة فنية. لكن الذي يثير دهشتها أن انفصالهما تم منذ تسعة عشر عاماً كاملة، فلماذا الآن؟ حتى زوجها الحالي هوتون مورو (الممثل أرمي هامر) يشاركها الاستغراب لحظة ثم ينصرف لشئونه الخاصة، تتابعه بنظرة متحسرة مغموسة بالحياء، فهي تعتبر الزوج المتأنق الممل هو العقاب السماوي العادل لهجرها الزوج العاطفي الموهوب في عز احتياجه لها، ينطلق الزوج الحالي المشغول بنفسه إلى أعماله في نيويورك، ويتركها في تكساس غارقة حتى النخاع في الصفحات المسكونة التي تتلبسها وتزيدها أرقاً على أرق.
يبدأ مخرج وكاتب سيناريو فيلم nocturnal animals (توم فورد) الخط السردي الثاني للأحداث بجعل المشاهد يرى ما يحدث داخل رواية إدوارد التي تقرأها زوجته السابقة، إنها تتحدَّث عن زوج وزوجته وابنتهما في رحلة عبر الطريق الصحراوي بالسيارة إلى مدينة مارفا على حدود تكساس. الزوج والأب في أحداث المخطوط هو إدوارد نفسه كما نراه على الشاشة وقد تبدَّلت هيئته من الحلة الأنيقة والجلسة المتحضِّرة التي ابتدر بها الدخول في حياة سوزان قديماً إلى ملابس حديثة كما أطلق لحيته وصار أكثر بدائية، وسرعان ما يقطع الطريق على الأسرة عصابة من الشباب المنحرف الذي يهوى المتاعب، يخطفون زوجته وابنته وهو تحت تهديد مهين، مما لا تصعب مقاومته، لذلك- بعد اكتشاف النتيجة البشعة- يؤنِّب نفسه بعنف على سلبيته وتخليه عنهما. إنه يلجأ لرجل شرطة غريب الأطوار، يائس ويُدخِّن بشراهة لأنه يعرف أنه سوف يموت بالسرطان رغم كل شيء، وهو مُخلص في عمله عموماً وملتزم بزي رجال تكساس المقتبس من رعاة البقر، وعندما يتعقَّبان طريق العصابة يكتشفان أريكة حمراء متهالكة في مكب نفايات بالصحراء عليها الأم وابنتها عاريتان تماماً تحتضن إحداهما الأخرى، جثتان هامدتان بعد اغتصابهما بوحشية. فجأة نرى سوزان تنتفض في مقعدها من هول المشهد في الرواية وتهاتف ابنتها لتطمئن عليها، لنجد الأخيرة مع صاحبها في الفراش بنفس لون الأريكة الدموي وذات الوضعية، وهنا نبدأ نفهم الغرض من إرسال الرواية لسوزان ومن الفيلم كله.
إن الزوج السابق (إدوارد)، المؤلف المرهف الذي تخلت عنه سوزان تحت ضغط لم تقاومه كما يجب من أمها التي حاولت إقناعها أن الرجل العاطفي المُغرم بالكتابة لا يمكن الاعتماد عليه في عالمنا المادي هذا، من حقها أن تعيش معه وأن تصاحبه، لكن عند الزواج عليها أن تختار رجلاً يعمل بعقله وحسابه في البنك وفير. إدوارد الآن ينتقم من هجرها له بطريقة مبتكرة غير مسبوقة، عنيفة وشديدة النعومة في الوقت ذاته ولا يمكن اتهامه بأي شيء. إنه الآن وحيد يعاني من السرطان، ويجعلها من خلال روايته تفهم مرارة الهجر وتذوق التخلي وتُجرِّب أثر الاستسلام تحت الضغوط الواهية فنترك من نحب فريسة الهواجس والضياع. بطل الرواية هو انعكاس لسوزان نفسها، وأسرته هي المعادل الموضوعي لإدوارد الذي صار وحيداً بلا شريك ضحية للقلق والمرض بينما اختارت زوجته حياة أكثر أماناً حسب رأي أمها. أما الضابط العنيف الأمين هو إدوارد نفسه بتجرد صفاته ومرضه الخبيث ويأسه المطلق، والطفلة المُغتصبة هي طفلتهما التي أجهضتها سوزان يوماً لعدم ترك أي رابطة بينهما في المستقبل.
تداخل السرد في الفيلم بسيط لكنه من أروع ما يكون، المخرج كان يعمل طويلاً في مجال تصميم الأزياء منذ 1990 قبل دخوله عالم السينما لذلك يعرف كيف يجعل الصورة في منتهى الأناقة فلا تترهل أطراف النسيج ولا نشاهد لقطات سريالية يمكن الاستغناء عنها فيلتزم بالقصة وفكرتها المدهشة. لمسة انتقام ناعمة أبلغ أثراً من أي احتكاك عنيف ودون نقطة دم واحدة. إنها تبعث له رسالة إلكترونية تخبره أن النص صدمها لكن يسكن الروح. لا يرد لكنه يعرف أن مسودة الانتقام تؤتي أكلها، حياتها تتغير ومغزى الرواية يتسلَّل إلى هواجسها فيفقدها الراحة. ترى برود زوجها الحالي وانشغاله الأناني ولا تغادرها صورة الابنة النائمة في حضن أمها بعد الانتهالك ونحن فقط في مقعد المشاهد رأينا ابنتها مع صاحبها في الوضع ذاته وهي رسالة من المخرج أننا لسنا دخلاء على حياتها بل نشارك السرد والتحليل. مؤلف الرواية لا يضرها مباشرة بل يجعلها تذوق كأس الحرمان بأسوأ انتقام ممكن وأكثره نجاحاً، هو ما يقلقنا بشأن من نحب أو يفجعنا فيه، هذا أقسى من أي أذى يصيبنا نحن. كلما قرأت في المخطوط ترسبت الشوائب السامة في نفسها كأنها تقنية تكشف سموم روحها وتخنقها بها بمنتهى العدل والذكاء. في روايته يتحول إدوارد إلى الضابط المتمرد بوبي (الفنان مايكل شانون) يساعد الزوج المكلوم وهو إدوارد نفسه الذي يقوم بدور سوزان في مسودته، لخطف المجرمين المتهمين بقتل واغتصاب أحب الناس إليه. زوجته (هو /سوزان) وابنته (المجهضة /ابنة سوزان). بوبي يخبر الزوج توني أن أيامه معدودة في الحياة (سرطان الرئة) وفي العمل (قرب التقاعد) وأن قيادات الشرطة لا تقبل طريقته الحاسمة (أبيض- أسود) في العمل وينوون إزاحته عن القضية والإفراج عن المتهمين لعدم كفاية الأدلة، من ثم يخطفان (راي) و(لو) المجرمين وينفذان العدالة بعد إزالة القيود وإطلاق الرصاص بزعم نيتهما الهرب. هذه العدالة التي أرادها إدوارد من إرسال الرواية. السيناريو مكتوب ببراعة عن رواية أوستن رايت (أوستن وسوزان)، حتى الغموض الضبابي جاء بالقدر المطلوب لتنقشع غيوم عدم الفهم بالتدريج حتى نرى لوحة الانتقام كاملة في النهاية عندما يفيض بها التوتر فتطلب مقابلته ويرد برسالة أن لا مانع وأنه يرحب بذلك. وهنا نراها في الموعد ترتدي الثوب الذي كان يُحبه وتتحرك باهتمام وشغف حتى يهبط تتر النهاية فجأة عندما يرحل رواد المكان الذي سوف يغلق أبوابه وتكتشف ونحن معها آخر حلقة في الانتقام: أنه لم يحضر! هل تركها تماماً بعدما أخذ الثأر لنفسه؟ هل راقبها من بعيد ليتشفَّى؟ هل مات بالسرطان وكان في نيته الحضور؟ لا نعرف، ولا تعرف هي! وحيدة مع كأس خمر فيه مرارة الوحدة والألم وكوابيس يقظة لا حصر لها في انتظارها.